خلال الربع قرن المنقضي شهد مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها طفرتين كبيرتين، فهل نحن الآن على أعتاب الطفرة الثالثة؟
وقبل أن نُفَصِّلَ في موضوع الطفرات نلقي الضوء سريعا على حالة تعليم العربية لغة ثانية في مصر في التسعينات، كانت هناك بعض المؤسسات الرسمية التي تعلم العربية لفئات محدودة مثل معهد وزارة التعليم، والمعهد الدبلوماسي، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبعض المراكز الثقافية التابعة للسفارات الأجنبية.
وكان العدد الأكبر في جامعة الأزهر حيث كان يدرس هناك أكثر من (10 آلاف طالب) دون أي تأهيل لغوي لهم ولا تمييز في الدروس بينهم وبين العرب، وذلك اعتمادا على معادلة شهاداتهم الثانوية بالثانوية الأزهرية بغض النظر عن كفاءتهم اللغوية الحقيقية. وكان من يأتي من غير العرب لدراسة العربية ولا يحمل شهادة معادلة للثانوية يلتحق بمؤسسة أزهرية لتأهيله يطلق عليها "الدراسات الخاصة". ونتيجة لعدم وجود مؤسسات احترافية لتعليم العربية لغة ثانية تناسب طلاب العلوم الإسلامية -في ذلك الوقت-بدأت تظهر المراكز الخاصة، وبدأ قطاع من هؤلاء الطلاب يلتحقون بها ويستعدون فيها لدخول الجامعة، أو أنهم طلاب في الجامعة بالفعل ويريدون تحسين لغتهم.
ظل عدد هذه المراكز محدودا وأعداد العاملين كذلك، حيث تعرضت عام 1997م لضربتين قويتين نتيجة سحب الحكومة التركية –انقلاب 28 فبراير1997-اعترافها بشهادة الأزهر؛ مما أدى لرحيل ألفي طالب تركي تقريبا من مصر، والضربة الثانية كانت انهيار الأسواق المالية في دول جنوب شرق آسيا "يوليو 1997"؛ مما حول طلاب تلك الدول لقائمة مستحقي المعونات في تلك الأثناء. وهو ما أدى لفقدان تلك المراكز الخاصة لمصروفات الجمهور الأساسي تقريبا. بقي من جمهور هذه المراكز طلاب آسيا الوسطى والذين كانوا يأتون بدعم المؤسسات الإسلامية التي فتحت في بلادهم عقب انهيار الاتحاد السوفيتي (1991م) استمرت هذه المراكز في وضع "عائم" لا تربح ولا تغرق إلى أن وقعت الطفرة الأولى. (الحدقي، 2013أ)
الطفرة الأولى: أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والتي أعقبها اهتمام غير مسبوق بتعلم العربية لغة أجنبية/ثانية [1] والذي رصدته دراسات جمعية اللغات المعاصرة الأمريكية حول تعليم العربية في مؤسسات التعليم العالي الأمريكية من 1990 وحتى 2009م. (الحدقي، 2013ب)
وقد تلا هذه الأحداث إقبال كبير على تعلم العربية حول العالم، وفي العالم العربي خصوصا، ومن كانوا يعملون في المجال في تلك الفترة يتذكرون كيف تضاعفت أعداد الطلاب القادمين لدراسة العربية في بلادها، سواء على نفقاتهم الخاصة أو بمنح من مؤسسات بلادهم، وأتذكر أن التسجيل في البرامج الصيفية -الخاصة-كان يغلق في نهاية مارس لطلاب سيدرسون في شهر يوليو تموز، بل كان هناك من يحضر واسطة ليجد مكانا. يذكر أن في تلك الفترة اعتمدت وزارة التعليم الماليزية اللغة العربية مادة رسمية في مدارسها، وشهدت بدايات البث العربي للعديد من المؤسسات الإعلامية العالمية كقناة الحرة الأمريكية، وهيئة الإذاعة البريطانية، وفرنسا 24، والصينية، وغيرها. ساهم أيضا في زيادة الاهتمام بالعربية الهجوم الأمريكي على العراق (2003م)، وما أطلق عليه "الحرب على الإرهاب"، وظهرت مبادرة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن للغات المتعلقة بالأمن القومي الأمريكي، وقد دعمت هذه المبادرة برامج دراسة اللغات بملايين الدولارات. (الحدقي، 2008م). وعلى الرغم من أن الهدف الأمني كان هو الأساس لمبادرة بوش الابن إلا أن آلاف الطلاب من المسلمين جاءوا لتعلم لغة الوحي، وآلاف أخرى من غير المسلمين جاءوا للتعرف على العرب والعربية عن قرب. (Belnap, 2006)
كما ازدهرت في تلك الفترة برامج العربية لأغراض خاصة، وشخصيا شاركتُ في برامج للمصرفيين والمضيفين الجويين والفنادق وموظفي الاستعلامات وموظفي المبيعات وغيرهم. ظلت هذه الطفرة مستمرة لأعوام تالية. كل ما سبق فتح الباب لآلاف الوظائف في المجال حول العالم. وعندما يقال "الوظائف" فلا يقصد "المعلمون" فقط، فالمعلم لا يُعَلِّمُ في الفراغ بل هناك من يعاونه من إداريين ومسوقين وتقنيين وعمال وغيرهم.
الطفرة الثانية: كانت عقب أحداث الربيع العربي، والتي لولا الاضطرابات التي أعقبت موجتها الأولى لكانت الثمرة أقوى بكثير في بلادنا، لكن أثرها خارج العالم العربي كان أكبر بكثير من داخله، حيث أدت الهجرة الكبيرة من البلاد العربية إلى دول المهجر وأهمها وأكبرها تركيا حيث توافق وجود ملايين العرب مع اهتمام الدولة التركية بالعربية في مدارس الأئمة والخطباء وكليات الإلهيات والعلوم الإسلامية، بالإضافة لاهتمام قطاع من الشعب في الأوقاف والجمعيات والمعاهد الخاصة، أدى كل هذا الاهتمام إلى دخول مئات –إن لم يكن آلاف- المعلمين لمجال العربية لغة أجنبية. والكلام نفسه -وإن كان بنسب أقل-ينسحب على دول المهجر الأخرى كألمانيا والسويد وكندا، وهي الدول التي أسس المهاجرون فيها مؤسساتهم لرعاية أبنائهم لغويا ودينِيًّا.
ونستطيع أن نقول إن 99% من هؤلاء لم يسبق لهم العمل في هذه المهنة من قبل، وهو ما تمت معالجته بعشرات الدورات التي عقدت في مناطق مختلفة لتأهيل المعلمين، وسواء أثمرت هذه الدورات تأهيلا حقيقيا أم لا إلا أنها وضعت الكثيرين على الطريق، وعرفوا أن تعليم العربية للناطقين بغيرها مهنة لها أصولها وقواعدها وكفاياتها، ومن أراد أن يحترف فقد عرف الطريق.
الطفرة الثالثة: وهي التي نشهدها حاليا ويتوقع أن تثمر ارتقاء في استخدام التقانات التعليمية بين معلمي العربية، ولو أجرينا اختبارا بين عموم أهل العربية والعلوم الإسلامية قد نجدهم من أقل الجامعيين استخداما للتَّقَانَات التعليمية، وما زال هناك معلمون لا يستطيعون إرسال مُرْفَقٍ عبر البريد الإلكتروني، ولايستطيعون تحميل ملف أو تنزيله عبر الإنترنت... إلخ.
والآن جاءت الجائحة لتقول من لا يتقدم يجمد، ومن لا يأخذ بأدوات العصر قد لا يجد راتبا في نهاية الشهر. ولذلك رأينا إقبالا كبيرا على مبادرات التدريب على التقانات التعليمية، وهو مؤشر طيب.
إن المسار الطبيعي لحالة الانتعاش التقني بين أهل العربية حاليا يتوقع أن تؤدي في المستقبل القريب لتحسن في الأداء التعليمي، ودخول عناصر متعة في العملية التعليمية، وهو ما يتوقع أن يجذب انتباه الطلاب الذين كانوا ينفرون من الشكل التقليدي لعملية تعليم العربية القائمة على الحفظ والشدة. كما أن الاعتماد على التقانات سيجعل الطالب يستعد للدرس بمواد تعليمية قبل لقاء المعلم؛ بما يجعل الدرس المباشر مع المعلم أكثر تركيزا وفائدة وأقل زمنا، كما أن الأدوات التقنية المتاحة يتوقع أن تجعل درس المعلم المجتهد أكثر تفاعلا وإمتاعا، كما أن الواجبات يمكن أن تكون كذلك عبر النماذج والألعاب الإلكترونية والأفلام القصيرة والمشروعات. المحصلة هنا سنجد أن اعتماد الطالب على نفسه تحسن، والزمن المطلوب لاجتياز المستويات في المؤسسات التعليمية سيتقلص، وهو ما سينعكس انخفاضا في تكلفة تعلم اللغة بما يساهم في دفع فئات جديدة لتعلم العربية.
إن ما نعيشه الآن مفيد في الدفعة القوية والسريعة في تدريب معلمي العربية على ما تتيحه التقنية من إمكانات تعليمية، لكن في الوقت نفسه من الضروري عدم النظر للوضع الحالي على أنه هو "الشكل التعليمي المثالي" أو أننا نوظف التقنية في مكانها الصحيح. إن عملية التحول الحالية شابها الكثير من العجلة في التحضير والكثير من الضبابية في التنفيذ، وإن ما يحدث الآن هو حالة شديدة الخصوصية، فالمعلمون والطلاب كل محجور في بيته، إنه وضع أشبه بالتعليم في المؤسسات العقابية في الدول المتطورة، حيث يتعلم المساجين عبر الإنترنت دون أن يسمح لهم بالخروج والمعلمون خارج السجن. أما حالتنا الآن فالمعلمون غير مسموح لهم بالخروج أيضا، فصار الطلاب والمعلمون أسرى. ومن ثم فلا يمكن أن نقيم الوضع الحالي ونستطلع الآراء ونقول إن هذه هي اتجاهات الطلاب والمعلمين نحو التعليم الإلكتروني لأنه وضع غير طبيعي من الأساس، سنخرج من هذه المحنة قادرين على توظيف التقانات الحديثة بإذن الله. أما ماذا يُتَوَقَّع بعد ذلك؟ فهذا هو الموضوع القادم إن شاء الله.
شكر:
أشكر أ.وليد السيد (المنسق الأكاديمي للسنة التحضيرية بجامعة الفاتح ومدير مركز الديوان) على ما قدمه من ملاحظات وإضافات لهذا المقال حيث كان شاهدا على تلك الطفرات.
مراجع:
الحدقي، إسلام يسري.(2013م). التحديات التي تواجه المراكز الخاصة لتعليم العربية للناطقين بغيرها في مصر "مركز الديوان نموذجًا" ، الملتقى العلمي الدولي لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، مركز الشيخ زايد، جامعة الأزهر
الحدقي، إسلام يسري.(2013م). تصور لمقرر مادة تعليم اللغة العربية لأغراض خاصة في ضوء التجارب الدولية ، بحوث المؤتمر العالمي الرابع في تعليم اللغة العربية لأغراض خاصة، ج1، ص276-295
الحدقي، إسلام يسري.(2008م). منهج متكامل لتعليم العربية لأغراض دبلوماسية ، أطروحة ماجستير، الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا.
Belnap, R. K. (2006). A profile of students of Arabic in US universities. Handbook for Arabic language teaching professionals in the 21st century, 169-178.
[1] يستخدم الكاتب هنا مصطلحات (لغة أجنبية، ثانية والعربية للناطقين بغيرها) كمترادفات على ما بينها من فروق دقيقة.
د. إسلام يسري: محاضر بجامعة السلطان الفاتح والمدير التربوي لمركز الديوان