شهد مضمار تعليم العربية للناطقين بغيرها نمواً واضحاً وإقبالاً متزايداً بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمر إلى الوقت الراهن، تزامن معه تطورات في المناهج وطرائق التدريس لكي تلبي هذه الحاجات الملحة للمتعلمين، وقد تمثلت هذه التطورات في عقد عدد كبير من الندوات والمؤتمرات التي خصصت لهذا الميدان، فضلاً عن نشر العديد من الكتب والسلاسل التي تُعنى بتعليم العربية للناطقين بغيرها عبر المستويات اللغوية، وفتح الأقسام التي تؤهل لتعليم العربية للناطقين بغيرها على مستوى الدبلوم والبكالوريس والماجستير والدكتوراه.
ويمكن القول بأن فئة (Heritage) طلبة وارثي اللغة كانت الأقل حظاً واهتماماً خلال العقدين الأخيرين، حيث لم تقدم لهم رؤى خاصة في تعليم العربية كونهم يتمتعون بخصائص تختلف عن خصائص الطلبة العاديين، ولا مواد تعليمية تلبي حاجاتهم ومتطلباتهم، فكانوا يُدمجون مع الطلبة العاديين الذي يقلّون عنهم في المستويات اللغوية مما أفقدهم الرغبة والدافعية في التعلم كونهم وضعوا في مستويات لا تناسبهم. وقد أبانت اللسانيات التطبيقية مؤخراً ضرورة أن يتم معاملة هؤلاء معاملة خاصة حيث يندرج تعليمهم فيما يسمى بتعليم العربية لأعراض خاصة. وإن كانوا في فصول جماعية مع آخرين من غير هذه الفئة لا بد من تبني مجموعة إستراتيجيات تقوم على مراعاة خلفياتهم الثقافية واللغوية عبر تطبيق آليات تستوعبهم وتستفيد منهم وتفيدهم لغوياً وثقافياً.
ويعرف الدارس وارث اللغة (Heritage) بأنه المتعلم الذي لديه كفاءة في ثقافة العربية أو علاقة باللغة العربية، وهم الأشخاص الذين يتحدثون بلغة في نطاق الأسرة تختلف عن لغة المجتمع، أي لغة هؤلاء هي لغة الأقليات، فمتحدثو العربية في الولايات المتحدة على سبيل المثال هي لغة أقلية، وكذلك الحال كل متحدثي اللغات الأخرى فيها، وفي حالتنا تكون لغة الأسرة هي اللغة العربية، وهي اللغة المحكية على وجه الخصوص، فيما تكون لغة المجتمع الإنجليزية أو أي لغة أجنبية أخرى بحسب البلد الذي يعيش فيه هؤلاء المتعلمون من ذوي الأصول العربية. ويعاني هذا المصلطح حتى اللحظة من إشكالات الاستقرار وهو أول ما ظهر بالإنجليزية، فبعصهم نقله إلى العربية إلى لغة وارثي اللغة أو وارثي التراث، أو متحدثي التراث، أو لغة عربية التراث، أو لغة ذوي الأصول العربية، وكلها في الحقيقة لم تستقر بعد. وآثرنا استخدام مصطلح لغة وارثي اللغة كونه الأكثر دقة وتعبيراً عن المصطلح الإنجليزي ومفهومه رغم تعقيده. وقد عرف "فالداس" وارث اللغة بـ"الفرد الذي نشأ في بيت لم تكن لغته لغة المجتمع الذي نشأ فيه". ويكاد يكون فيه من ذوي اللغتين لغة البيت ولغة المجتمع.
ونظراً لهذه الخلفية فإن التحاق هؤلاء المتعلمين ببرامج دراسة اللغة في بلدانهم الأصلية أو في البلاد العربية التي توفر برامج لتعليم العربية للناطقين بغيرها، يواجه بصعوبات جمة، وتحديات مختلفة بسبب اختلاف خلفاياتهم الثقافية واللغوية وبالتالي افتراق مهاراتهم وكفاءتهم في الاستماع والمحادثة عن القراءة والكتابة ناهيك عن طبيعتهم الشخصية وسلوكاتهم الإنسانية.
ولاستشراف هذا المجال فإنّ هناك عدداً من التساؤلات والتحديات على الصعيدين اللوجستي والأكاديمي التي يمكن أن تنقدح في ذهن الباحث فيه التي يمكن أن تقود لتشكيل خارطة طريق في تعليم وارثي اللغة، ومنها:
- كيف نعّرف وارثي اللغة بصفتهم مجموعة مقارنة بمجموعات الدارسين الآخرين في ضوء خصائصهم الخاصة؟
- ما هي أهداف واثي اللغة في القرن الحادي والعشرين؟
- كيف يجب أن يكون التدريس مساعداً لتحضير وارثي اللغة وأساتذتهم في فهم السياق اللغوي الاجتماعي في دراسة لغة الأقلية وتدريسها؟
- كيف يجب أن يتم تصميم برامج تعليم وارثي اللغة؟
- كيف يجب أن نؤهل مدرسي وارثي اللغة من أجل تحقيق حاجات وارثي اللغة اللغوية بأهدافهم الخاصة والفريدة؟
- ما أفضل المناهج الدراسية التي تساعد على تلبية حاجات وارثي اللغة؟
- ما هي أفضل إستراتجيات تدريس طلبة وارثي اللغة وأكثرها فعّالية؟
- كيف يمكن نقل خبراتهم في اللهجات وتطويعها لتطوير مهارتهم في اللغة الفحصى؟
- ما الأساليب الناجعة في دمج وارثي اللغة مع الدارسين العاديين؟
- كيف يمكن تقييم مهارت وارثي اللغة؟
- ماذا يمكن أن تضيف التكنولوجيا لفصول وارثي اللغة؟
ومن مفاتيح التغلب على هذه التحديات تأهيل المدرسين كون المدرس يشكل حجر الزاوية في نجاح أي برنامج لغوي بصرف النظر عن ماهيته وطبيعته. وقد اقترح لاكورت سبعة مفاتيح في تدريب معلمي وارثي اللغة:
الأول: أيدلوجي: الانفتاح الأيدلوجي بالنسبة لموضوع المعتقدات والاتجاهات نحو اللغة وقضاياها وخاصة فيما يتعلق بالفصحى واللهجات.
الثّاني: ثقافي: وتتمثل في فهم الخلفية الثقافية لوارثي اللغة ودافعيتهم نحو تعلم العربية والعمل على تعزيزها، والعمل من خلالها.
الثالث: اجتماعي: الوعي بقضايا الهوية لدى وارثي اللغة، والثقة، والاندماج مع الآخرين، وطرائق التعبير عن أنفسهم ومصطلحاتها.
الرابع: لغوي: الوعي بالفروق بين عمليتي اكتساب اللغة الأولى وتعلم اللغة الثانية، واختلاف الكفاءة بين مهارات اللغة الواحدة، واستعمال اللغتين في آن وغيرها من القضايا.
الخامس: منهجي: الوعي بحاجات الدارسين من مواد تعليمية خاصة واختبارات وتدريبات ونشاطات، وطرئاق تقويمها.
السادس: بيداغوجي: الوعي بإستراتجيات تدريس اللغات الأجنبية والعربية، والتنويع في أساليب التدريس وطرائقها.
السابع: مِهني: الفصول المختلقة تستدعي مهارات متقدمة في فنيات التدريس والتطور المهني الذي يراعي الخصائص والفروقات.
أمّا خصائص وارثي اللغة التي يجب أن يعها مدرسو وارثي اللغة، فيمكن تلخصيها في الشكل الآتي:
أمّا من حيث الأهداف التي ينيغي أن تحاول برامج العربية تحقيقها لوارثي اللغة، فقد لخصها "فرانسس أباريكو" وغيره في:
- إصلاح لغته التي ورثها عن أبويه وتطويرها.
- إكتسابه الفصحى كونها اللغة الراقية.
- تمكينه من امتلاك لغتين.
- نقل المهارات الأدبية.
- إكسابه المهارات الأكاديمية في اللغة العربية.
- حصد مواقف إيجابية نحو اللغة الهدف (العربية)
- إكتساب أو تنمية الوعي الثقافي.
وتعد الفصول الخاصة أو التدريس واحد لواحد من أفضل الوسائل في تحقيق أهداف وارثي اللغة، وليس من السهل تحقيق هذه الفرص في بعض البرامج، ويبقى السؤال، كيف يمكن أن أحقق كل ماسبق ذكره في ظل تنوع الدارسين ما بين دارسين عاديين وواثي اللغة؟
وهذه طائفة ببعض النصائح الخاصة التي وصلت إليها من الميدان في كيفية التعامل مع وارثي اللغة. وقبل ذلك ينبغي توصيف مشكلة وارثي اللغة في الفصول الدراسية العادية، وتتمثل فيما يلي: إن المعضلة الأساسية التي يعاني منها وارثو اللغة تتمثل في ظاهرتين: الأولى: الفرق الواضح بين مهارتي الاستماع والمحادثة من جهة والقراءة والكتابة من جهة أخرى، حيث يُمْكنه التواصل في الغالب في العامية استماعاً وحديثاً، ويكاد يكون أمياً في القراءة والكتابة، والثانية: أنّ مهاراته التي يمتلكها في اللغة يغلب عليها اللهجة العامية، وإن تكلم بالفصحى في بعض الظروف أو أنتج بعض الكلمات فهو لا يعرف الحد الفاصل بينهما، مما يشكل عقبة تدريسية وتحدياً برامجياً في المؤسسة والفصل وللمعلم والطلبة على حدٍ سواء. وبالتالي يكاد يكون وقت هؤلاء في مهارتي الاستماع والمحادثة سبباً في قتل الدافعية لديهم، وشعورهم بالملل، والرغبة في الخروج من الفصل لأانها غالباً ما تكون أدنى من المستوى الفعلي الذين هم عليه، لكي يتناسب المستوى مع المهارتين الأخريين القراءة والكتابة، بل قد يصل بهم الأمر إلى أن يكونوا مصدر إزعاج مادي أو نفسي للمدرس وطلبته.
- ومن إستراتيجيات العلاج لوارثي اللغة أن يشاركوا الأستاذ في عملية التدريس أو يكونوا مساعدين له خاصة في مهارتي الاستماع والمحادثة، بحيث يقسم الفصل إلى مجموعات بعدد المدرس ووارثي اللغة، ويتولى كل واحد منهم متابعة مجموعة، وقد وجدت فعالية عجيبة، وفائدة عظيمة لهذه الإستراتيجية من الناحتين اللغوية والثقافية لوارثي اللغة أنفسهم ولسائر الدارسين. كما يمكن الاستعانة بباقي الدارسين لكي يكونوا مساعدي تدريس في مهارتي القراءة والكتابة لمساعدة الوارثين في القراءة والكتابة. فيشعر عندئذ كل طرف في الفصل بحاجته إلى الطرف الآخر، فيتحقق الوئام والانسجام والفائدة اللغوية.
- ومن تلك الإستراتيجيات إعداد بعض المواد الخاصة بوارثي اللغة، وجعلهم في مجموعة خاصة للعمل عليها، فيما يقوم باقي الفصل بمجموعاتهم بالعمل على مواد أخرى، فيكون جزءاً من الوقت خاصاً وآخر مشتركاً.
- ومن الحلول المثالية في تجاوز عقبات وارثي اللغة تخصيص أوقات خاصة بهم، ويمكن أن تكون على قسمين أو ثلاثة، الأول: مع طالب ممن هو أعلى مستوى منهم، حيث تتحق الفائدة للاثنين، حيث إن أفضل وسيلة للتعلّم هي التعليم، فتتعزز معرفة المستوى اللغوى للطالب الأعلى مستوى، وتتحق الفائدة لوارث اللغة، أو/و يمكن تخصيص وقت آخر مع مساعد المدرس أو/ و مع المدرس ذاته، هذه الأوقات الخاصة مهمة جداً في تعزيز الدافعية وبناء الثقة، وتحقيق الحاجات الخاصة.
- ولا شك أن زيارة وارث اللغة واستغلاله للساعات المكتبية لأستاتذته وللأساتذة الآخرين في المؤسسة التعليمية سوف تساعد في ردم الهوة بين مهارتي القراءة والكتابة من جهة والاستماع والمحادثة من جهة أخرى، وتفصيح العامية.
- وإنّ وعي الأستاذ بحاجات وارثي اللغة تساعده على تخير بعض المواد السمعية التي تساعد وارث اللغة على الانتقال من العامية إلى الفصحى ومن الفحصى إلى العامية بسلاسة ويسر، ناهيك عن المواد القرائية والكتابية المسجلة وغير المسجلة التي تعين على تطوير مهارتي القراءة والكتابة.
- ولا ريب أن برنامج الشراكة اللغوية يجب أن يكون له دور في تصحيح مسار دراسة وارثي اللغة، بحيث يجب أن يكون هؤلاء ممن يستطيعون الحديث بالفصحى والعامية على حدٍ سواء ناهيك عن الحدود الفاصلة بينهما، بحيث يستطيعون إصلاح لغة وارثي اللغة في مستوياتها المختلفة.
- ولا شكّ أن توجيه وارثي اللغة نحو التواصل مع كل من يستطيعون التواصل معه يساهم بشكل فعال في إصلاح لغتهم وصقلها وتطويرها، وإن المشاركة في الفعاليات والنشاطات الثقافية وغير الثقافية في البلد المضيف يعد لبنة في عملية الإصلاح اللغوية هذه.
- ولا يسعني القول في نهاية هذه المقالة، إلا أن هذه تعد بداية الطريق نحو الاهتمام بهذا المجال البكر في تعليم العربية للناطقين بغيرها، ونسأل الله التيسير حتى ننتهي من إعداد دراسة مفصلة حول هذا الموضوع. ولعلها تكون فاتحة خير للباحثين حتى يطرقوا هذا الموضوع بالدراسة والبحث والتدقيق.
