ثمة جدل دائر بين منظري تعليم اللغات الأجنبية حتى اللحظة فيما ينبغي التركيز عليه في مدخلات عملية تعليم اللغات الأجنبية ما بين المعنى والمبنى، ولا ريب أن المقصود بالمبنى أو الشكل هو القواعد والتراكيب اللغوية كونها بداية الطريق أو منتهاها، ويمكن تقسيم هذه الاتجاهات إلى ثلاثة: الاتجاه الأول الذي يهتم بالمبنى حيث يعده القواعد الأساسية للغة في صورها المختلفة المكتوبة والمنطوقة، وهي تعد نقطة الانطلاق المناسبة لاكتساب اللغة الثانية، الاتجاه الثاني: يهتم بالمعنى، ويؤمن هذا الفريق بأن الاهتمام بالمعاني يقود إلى معرفة المباني، وبذلك تتحقق فائدة التواصل منذ اللحظة الأولى وصولاً إلى المباني اللغوية. أمّا الاتجاه الثالث، فهو الاتجاه التوفيقي الذي يقف موقفاً وسطاً ويقدمون المبنى والمعنى في سياق واحد، وربما يقود أحدهما إلى الأخر بناء على المهمة أو الوظيفة اللغوية، ويؤمن بضرورة التوفيق بين المذهبين بحيث يكمل أحدهما الآخر.
وحظي اتجاه التعليم المستند إلى المبنى باهتمام كبير ورضى واسع حيث يعتقد كثير من المعلمين والمتعلمين لدى تطبيقه في بعض فصول تعليم اللغات الأجنبية بأنه المعجزة التي أنقذت عملية اكتساب اللغة الثانية، و تقوم فكرة تعليم اللغة وفق فلسفة التدريس المستند إلى المباني اللغوية على تخير المباني اللغوية والتراكيب الأساسية التي ينتوي المدرس تقديمها للمتعلمين عبر جذب اهتمام الدارسين على هذه الأشكال والمباني التي تساعد على اكتساب اللغة فهماً وإفهاماً سواء أكان بشكل مباشر أو غير مباشر أو بشكل صريح أو ضمني آخذين بعين الاعتبار ترتيبها بحسب المستويات اللغوية المناسبة للمتعلم. ومن هؤلاء (Muranoi, 200 ) و (Ellis, 2002 ) و (Poole, 2005) يذكر إليس بأن التعليم الذي يركز على المبنى يستطيع جذب الدارسين إلى العناصر اللغوية أكثر من التركيز على المعنى. ويؤكد في دراسة لاحقة ( Ellis , 2012) أن فلسفة التدريس المستند إلى المباني تقوم على مساعدة الدارسين على إتقان المباني اللغوية المرسومة في المنهج الدراسي عبر جعل أهداف تدريسها واضحة بينة للمتعلمين. ويزعم Schmidt and Frota) 1986,) أنّ الدارسين يحتاجون في تعلّم اللغة الثانية إلى النظر في العناصر اللغوية قبل عملية اكتسابها. حيث يشعر المتعلم بتعطل لدى إنتاجه اللغوي إن لم يكن لديه فهم واضح للبنى اللغوية. ويؤكد (Mitchell and Myles, 2004) أن حجم التعرض اللغوي للمباني اللغوية (المدخلات) يؤثر في مخرجات اللغة الثانية. فيما يعتبر Schmidt) ,1994) أن عملية الملاحظة والتأمل بالمباني اللغوية من العوامل الضروري في عملية الاكتساب. ويعتقد بأنه كلما زادت كمية التعرض للمباني زادت كمية التعلم والكفاءة اللغوية. ومما لا شك فيه أن الدارسين وفق المذهب المستند إلى المبنى يملكون مقدرة لغوية أعلى وأكبر من الدقة أو السلامة اللغوية ومهارات التصحيح الذاتي بسبب الوعي المبكر في الأبنية اللغوية للغة المكتسبة. وهذا ما أكد عليه ( Krashen, 1985) في نظرية التعرض والإنتاج المتعلقة بالانتقال من i إلى i+1.
أمّا الأسس النظرية التي استند إليها منظرو التدريس القائم على المبنى فأهمها الأساس المعرفي في اكتساب اللغة الثانية كما جاء عند كراشن وغيره، حيث إن وضوح المبنى يقود مباشرة إلى امتلاك المعنى والقدرة التواصلية في حين إن الاعتماد على المعنى قد لا يقود تماماً ولا يملك مرجعية معرفية واضحة في اكتساب التركيب اللغوي، وقد يستغرق وقتاً طويلاً لمعرفة التركيب الصحيح. ويرى Schmidt) 1994) مرة أخرى أن التعليم المستند إلى المبنى يتيح فرصة للمتعلمين إلى التحاور والتفاوض وإعادة الصياغة وطلب التوضيح سعياً إلى بلوع إنتاج المبنى اللغوي المنشود في هذا الدرس أو هذه المهمة. وأظهرت دراسة ( Skehan, 1998) أن الوعي بالتركيب اللغوي قبل الشروع بالعمليات الاكتسابية للغة يعد عاملاً مفتاحياً وأساسياً في تنمية المقدرة اللغوية لدرى المتعلم. ويلح Schachter’s (1989) أن اكتساب اللغة الثانية يختلف اختلافاً جوهرياً عن اكتساب اللغة الأولى، حيث إن التعرض المبكر للغة لدى الصغار يساعدهم على امتلاك التراكيب والبنى اللغوية الصحيحة، في حين افتقار دارسي اللغة الثانية من هذه الفرصة يجعل هذا الأمر عليهم عسيراً بل ومحبطاً في بعض الأحيان، لذلك يصبح موضوع التعليم والتعلم المستند إلى المبنى ضرورة ملحة. وأخلص إلى القول بأن التعليم المستند إلى المبنى او الشكل يُصمم من أجل تدريس قواعد بعينها يسير وفق إجراءات معينة سواء أكان مخطط له أم لا، وقد يكون فعّالاً خاصة في موضوع الدقة اللغوية لكنه لا يسير في ضمن الترتيب الطبيعي في الاكتساب، ويكون فعالاً أكثر إذا تم ربطه بتعرض لغوي مكثف من اللغة الأصيلة، في حين يقوم التدريس القائم على المعنى على فكرة إيصال المعنى دون الاهتمام بشكل أو مبنى معين.
وعليه، يعتمد اكتساب اللغة الكلي على نوعية التعرض وفلسفة التدريس التي يتعلم من خلالها الدارس اللغة، وهذا يقودنا للحديث عن الاتجاه الثاني في تعليم اللغة الثانية واكتسابها المستند إلى المعنى، خاصة في ظل الضغوط التي يتعرض لها متعلم اللغة ما بين القلق والدقة والطلاقة، وعملية الجمع بين المعنى والمبنى، ولذلك مال اللغويون إلى تفضيل واحدة على الأخرى، وترتيب الأولويات. ومن هنا جاء الاتجاه الثاني في التعليم القائم على المعنى، وهي المظلة التي يستند إليها المذهب الاتصالي بشكل عام والقيام على أنقاض مذهب القواعد والترجمة، وانطلقت من نقطة مؤداها أن التعليم وفق المبنى داخل الغرفة الصفية لا ينسجم مع ما يحتاجه المتعلم خارج الصف، ناهيك عن أن تعلّم القواعد النظرية لا يعني المقدرة على تطبيقها بشكل إنتاجي في اللغة، ولعل اكتساب اللغة الأولى خير شاهد على ذلك، وأكبر مثال يدلل على هذه الظاهرة اكتساب اللغة العربية حيث يقضي الناطقون بها أكثر من عقد من الزمان وهم يدرسون القواعد وفق نظرية التعليم المبني على الشكل أو المبنى وبالتالي لا يقدرون على تطبيقها في لغة التواصل اليومي. وينسجم مع هذا الاتجاه الهدف العام من اكستاب اللغات الثانية أو الأجنبية وهو التواصل الإنساني أو تحقيق الكفاية التواصلية بما تضمه من الكفاية القواعدية والكفاية الاجتماعية والكفاية الخطابية والكفاية الإستراتيجية. وفي أدبيات اكتساب اللغات الثانية لا شك أن النشاطات التي تتوافر على توصال حقيقي تدعم التعلّم، والنشاطات التي تحمل وظيفة لغوية لا ريب تدعم عملية التعلم والاكتساب، ولا شك أن النساطات التي تحمل معنى تشجع وتدعم عملية التعلم. وهي نتيجة طبيعية للمذهب الاتصالي الذي يؤكد على التعلم القائم على المعنى.
ويقوم التدريس في هذا المذهب على ردود الأفعال والتعليم العرضي عبر المواقف الاتصالية والمهام أو الوظائف. وتستند الرؤية في هذه المدرسة إلى أن اللغة تكتسب في سياقها الطبيعي والسياق الطبيعي (سيناريوهات تواصلية حية) يقود إلى امتلاك اللغة وتراكيبها دون وعي وإدارك بذلك. ويتم تعريض المتعلم وفق هذه الفلسفة إلى قدر أكبر من كمية التعلم بالمقارنة مع فلسفة التعليم المستند إلى المبنى أو الشكل، خاصة في ضرورة ربط النشاطات اللغوية الصفية الداخلية بالنشاطات الخارجية التي تقود إلى تنمية المقدرة اللغوية والكفاءة. ومما يميز التدريس بهذه الطريقة أو هذا المذهب أن اللغة التي يتعرض إليها الدارس هي لغة طبيعية وحقيقية تعكس الواقع اللغوي الذي سوف يعيشه المتعلم مستقبلاً ناهيك عن مساهمته في رفع الثقة والدافعية لدى المتعلم في تعرض إلى مدخلات حقيقة وضعت في أساسها لأبناء اللغة. وللتدريس وفق المعنى مذاهب متعددة أشهرها: تعليم اللغة تواصلياً، وتعليم اللغة المستند إلى المضمون، تعليم اللغة المستند إلى الوظائف أو المهام اللغوية.
وقد أظهرت دراسة أجرتها (Park, 2000) أن مكتسبات الدارسين وفق التعليم المستند إلى المعنى كان أكثر فعالية وأفضل نتيجة من التعليم المستند إلى المبنى أو الشكل. وليس من السهل تعميم هذه النتيجة في نهاية المطاف حيث أجرى (Fridman & Doughty, 1995) دراسة مطولة فيها نوع من التفصيل فيما يتعلق بالطلاقة والدقة حيث أظهر الدارسون وفق مذهب التدريس اقلائم على الشكل أو المعنى تقدماً ملحوظاً على مستوى الدقة أو السلامة اللغوية.
وعليه يمكن تلخيص الفرق بين التدريس وفق المعنى والمبنى في النقاط الآتية:
التدريس المستند إلى المبنى |
التدريس المستند إلى المعنى |
التركيز والاهتمام منصب على تراكيب لغوية مختارة سابقة وليس من الضروري أن تكون سياقية. |
التعليم يقوم على التواصل والمهام والوظائف |
التعليم مصمم على إكساب الدارسين تراكيب بعينها تسير بشكل تراكمي. |
يتم معالجة ما يعترض المتعلم من صعوبات بنائية بناء على مخرجات التواصل. |
لا يسير التعلم فيه ضمن الترتيب الطبيعي لاكتساب اللغة. |
يسير التعلم فيه بناء على البناء التواصلي والوظائف عبر المستويات |
اللغة فيها صناعة إلى حد بعيد. |
اللغة أصيلة وطبيعية |
وهذا يقودنا إلى المذهب الوسطي الثالث الذي يجمع بين المذهبين السابقين التدريس المستند إلى المبنى أو الشكل والتدريس المستند إلى المعنى، حيث يتعاضدان ويتعاوران كلاهما في تشكيل الكفاءة اللغوية طلاقةً ودقةً.
وعليه تهدف كل المذاهب إلى تطوير الكفاءة اللغوية لدى الدارس ولكنها تختلف في كيفية بلوغها وكيفية صقلها وتهذيبها، في حين يكون الانطلاق في التدريس وفق المبنى من الصحة أو الدقة اللغوية نحو الكفاءة اللغوية،ـ يكون الانطلاق في مذهب التدريس وفق المعنى من الطلاقة اللغوية نحو الدقة اللغوية، وبالتالي فإن المسألة مراعاة بعض الأسس والمنطلقات النظرية التي تدعمها نظريات الاكتساب والتعلم، وفقه الأولويات في تدريس اللغة، أيها نروم تحقيه أولا الطلاقة على حساب الدقة أم الدقة على حساب الطلاقة أم الجمع بينهما.
